يخلط البعض بين "أوروبا" و"الولايات المتحدة الأمريكية" فيما يتعلق بظاهرة الحضور الديني في الحراك السياسي الداخلي في كلتيهما، بصفته قاسماً مشتركاً في التجربتين السياسيتين الغربيتين، من حيث "مكانة الدين" في إدارة الصراع السياسي الداخلي من جهة، ومع الآخر "الإسلامي" المخالف دينياً من جهة أخرى.
والحال أن "الدين" في الخبرة الأمريكية يأخذ منحى وظيفياً مخالفاً لما هو عليه الحال في أوروبا؛ ففي الأولى يُستدعى الدين كـ"عقيدة" أيديولوجية وكأداة لقراءة التاريخ واستشراف المستقبل، وفي الثانية يتمترس به السياسيون والمجتمع عموماً كـ"هوية" وخصوصية ثقافية للتمايز الحضاري عن الآخر.
المسيحية كدين في الولايات المتحدة الأمريكية تسجل حضورها في إطار "التطرف الديني" المحض، بينما في أوروبا يُستقوى بها في دعم "التطرف السياسي" خارج دائرة "الفعل السياسي" الرسمي الذي يظل محتفظاً باعتداله إلى حد بعيد.. وثمة فارق جوهري وهام بين الحالتين.
الحضور الطاغي للدين في الجدل السياسي الغربي عموماً ـ بشقيه الأوروبي والأمريكي ـ أفرز إحساساً لدى النخبة الغربية بضرورة إدراج الدين في الحسابات السياسية الرسمية، حتى في البلدان الأكثر تشدداً في علمانيتها، وبلغ الحد أن طالب الصحفي الأمريكي (جيم هوكلاند) في عموده بـ(واشنطن بوست) يوم 3 يناير 2008 بضرورة توسيع دائرة النقاش حول الدين والسياسة خلال موسم السباق الرئاسي الحالي في الولايات المتحدة؛ لأن الدين ـ بحسب رأيه ـ أصبح "مجدداً قوة دافعة بارزة في ساحة الشؤون الدولية"، ويستدل بكتاب الأستاذ بجامعة واشنطن الكاثوليكية (جورج ويغل) المسمى (Faith, Reason and the War Against Jihadism)، وبرأيه في أن "الغرب إذا لم يتعامل بصورة جدية مع الأفكار الدينية كقوة فاعلة في الأحداث والتطورات، فإنه سيكون بمثابة مَن ينزع سلاحه وهو يخوض حرباً"، وأن "ثمة إمكانية لصياغة قيم مسيحية ضمن أيديولوجية كونية مضادة لمحاربة القاعدة وشركائها".
ربما لا يختلف الأمريكيون عن الأوروبيين في هذا الانطباع، غير أن ثمة فارقاً كبيراً في ذلك الشأن يمكن ملاحظته وتسجيله كمرتكز لفهم الفارق بين علاقة "الأوروبي" ونظيره "الأمريكي" بالإسلام والمسلمين.
ففي حين بات العقل السياسي الأمريكي ـ وكما سجلت ذلك (بربارا فيكتور) في كتابها الشهير (الحرب الصليبية الأخيرة) ـ فريسة (للتطرف الديني)
الذي لا يقبل "التجاور" مع الآخر المخالف دينياً، ولكن "نفيه" أو "التوصية" بالتخلص منه من خلال "الإبادة الجماعية" على نحو ما قرر (رالف بيتر)، فإن المشهد في أوروبا يأخذ منحى "القلق الثقافي" على الهوية الغربية وقدرتها على الحفاظ على تمايزها الحضاري.
فالمسيحية في أوروبا لم تعد مستقرة في الوجدان العام أو في العقل السياسي كـ"دين"، ولكن تمت إعادة اكتشافها ـ مع الحضور الإسلامي المتنامي في أوروبا ـ كـ"هوية" للتحصّن بها ضد "الوافد الثقافي" الجديد، لاسيما أنه ذو مضمون نضالي ورسالي لم تخطئه الدراسات الاجتماعية الغربية الحديثة.
أزمة الحجاب في فرنسا (1989 ـ 2003) ـ على سبيل المثال ـ لم تكن لأسباب دينية ولكن لأسباب "ثقافية"؛ فالحجاب ذو حمولة ثقافية وحضارية مخالفة لثقافة فرنسا المسيحية، والأزمة كانت في حقيقتها أزمة حول تهديد حقيقي لـ "هوية فرنسا".. ولعل ذلك لم يتضح صراحة في الخطاب السياسي الرسمي في فرنسا إلاّ مؤخراً، مع تصريحات الرئيس الفرنسي الحالي (نيكولا ساركوزي) أثناء زيارته للفاتيكان في آواخر عام 2007، حين قال صراحة وبوضوح: إن الكاثوليكية تشكل "واحداً من مصادر الحضارة الفرنسية"، وقال في واحد من تعليقاته: إن جذور المجتمع الفرنسي «مسيحية في الأصل".. وبالمثل فإن تصريحات المستشارة الألمانية (إنجيلا ميركل) بشأن المآذن ورفضها أن تكون "أعلى" من أبراج الكنائس، تأتي في هذا السياق.
في مؤتمر "دافوس" الأخير ، ورداً على ظهور جماعات تناهض بناء المساجد في أوروبا، قال النائب البرلماني السويسري السابق (أولريخ شلور) رئيس لجنة مبادرة حظر بناء المآذن في سويسرا: "لا علاقة للمئذنة بالإيمان، وحرية الدين لا تُمس (من قبل المبادرة)، فالمئذنة رمز لإرادة تولي السلطة من قبل مَن يدافعون عن مفاهيم القانون، تلك (الشريعة) التي تتعارض مع تصوّرنا نحن".
هذه هي مشكلة أوروبا الحقيقية مع "الإسلام".. إنه "القلق الثقافي" على "هويتها".. وهو قلق مشروع يمكن تفهمه، ويختلف كثيراً عمّا هو عليه الحال في أمريكا، حيث بات "التطرف الديني" حاضراً داخل النخبة الحاكمة ذاتها، مقابل تنامي "القلق الثقافي" داخل مؤسسات السيادة وصناعة القرار في أوروبا، ولذا فإن الأولى تؤطر علاقاتها بالآخر "المخالف" الرغبة في "النفي" و"الإقصاء" ، فيما تظل علاقة الثانية بالمخالف الديني والثقافي تحت سقف البحث عن وسيلة لـ"التعايش" معه.